"الضباب"
بدأ الشيخ عتمان بدندته من أراضي مقام النكريز على تقسيمات عبده أفندي من أوتار كامنجاته ذات اللون الأصفر الذي يوحي بقدمها وعراقتها في الآن ذاتها.
"فرح الزمان... فرح الزمااااااااااااان... واليوم حان الموعد"
وبدء المحيطون في الترنم والترنح على درجات السلم التي يعلوها ويهبطها الشيخ عتمان حتى صطلهم بقفلة النهاوند إياها التي أحبوها منه، فتعالى التصفيق والآهات ودخل الأسطى زوبة على طبلته بإيقاعات متراقصة.
اسمه سيد البدري لكنه اشتهر بالأسطى زوبة بعد عمله مع الراقصة زوبة حركات التي اعتزلت منذ خمس عشرة سنة وواتتها المنية منذ عامين. ورغم طول مدة انقطاعه عن العمل خلفها إلا أن اللقب ظل عالقاً به.
فرح الزمان... الزمان. ااااااا.. اااآآ آآ ان.
- الله يا عيني يا شيخ عتمان.. إيه الحلاوة دي.. يا مجرم
هذه دائما كلمات الحاجة صفية النوري لما تتسلطن من جوابات الشيخ عتمان.
- سمّعنا يا سيدي آه.. شوف يا حاج بكري شوف.. شوف اللي قوالة اللي هيقولها دلوقتي.. شوف
"اليوم حان الموعد.. فرح الزمااان"
- يا وله
قالتها الست صفية من قلبها وهي تنفث دخان النرجيلة التي تدور بينها وبين الحاج بكري.
"حاااان الللللللللل لموعد فرح الزمان"
بكري: يا وله يا وله بطل العمايل دي.
"فرح الزمان اليوم حان الموعد وعادت لنا ذكراه"
ودخل كل من عبده والأسطى زوبة في حوارية موسيقية طلبت من الجالسين تصفيقاً بكل الكف راحة وأصابع ورقصات على الضربات المميزة للأسطى زوبة على طبلته.
لتقوم ثنائية جديدة مع الشيخ عتمان وكمنجا عبدو أفندي؛ أبدع فيها عتمان ورقصت فيها أصابع المبدع عبده أفندي؛ تقسيمات من عدد من المقامات المركبة حتى قطع الشيخ عتمان نفسه؛ فلم يستطع إلى أن يترك الكروان يصدح وحده ويشق عتمة الليل بصوته الجهوري العريض الذي يضيء ظلمات الدرب من المقابر إلى مقام سيدي النوري.
وتعالت آهات الجالسين بالسبّ والثناء معاً على صاحب الصوت الضخم الذي فوّقهم من سكرة الحشيش الذي عطر أجواء المكان؛ ليعيد إسكارهم بليونة حنجرته ويسكب في قلوبهم لهيباً من الطرب لا يطفؤه إلا وصلات أخرى يجرعونها منه.
وبعد أن انتهت رحلة العذاب والشوق والأمل والحلم والموت والسكر، وبعد أن أفاق الشيخ عتمان من سلطنة اللحن ونفسين الحشين اللي شدّهم مع شلة الأنس، سار وحده ليقطع طريق المقابر متجهاً لجامع سيدي النوري قبل صلاة الفجر، ليترك الأحياء الأموات ويوقظ الأموات الأحياء، يوقظ من بقي حياً منهم على ابتهال الفجر قبل موعد الأذان.
انطلق تعتصره أشواق اللقاء للحبيب الأعلى وآلام الذنب أو لعله ليس ذنباً إنه سكرة للقاء الحبيب غياب عن شهود الخلق لشهود الحق؛ هذا ما ظنه وما قاله شيخه وما شعره عندما ترنم بذكر الرسول.
شعور طالما اخترق صدره وهشم ضلوعه وهو يصدح بأذان الفجر، وشعور مماثل وهو يترنم بالمديح وسط شلة الأنس.
هل هم مذنبون مثله؟ إنهم حقاً طيبون.. الحاجة صفية أطهر من قلبها ما فيش، بل إن عطفها على مريدي الضريح من الفقراء يفوق عطف إمام الجامع عليهم، مع أنه هو الداعي للمعاملة الحسنة وللصدقة ولإطعام المسكين.
هل الحاج بكري الذي يحافظ على الفجر حاضر، ولا يفوت يوماً في الجامع الكبير مذنب لأنه أكبر تاجر مخدرات في الحتة؛ لكنه دائماً يبكي من حب النبي، ودموعه تصدّق كلماته.. إنه يقول إنه يبيع هذا المنكر لأولاد الحرام!!
أفكار وأشباح أفكار ظلّت تغشى خيال الكروان حتى في تواشيح الفجر...
ربي ذنوبي إليك تسعى ... وأنت تغفرها وترعى
لكنني يا رب دوماً ... أسيء رغم العطاء صُنعا
فيا وجود الوجود كن لي ... ومد لي من لدنك نبعا
قلبي وشدوي إليك جاءا ... يستغفران الوجود جمعا
قد رق قلبي فصار نورا ... ورق شدوي فصار دمعا
هل كلهم فجار كما كان يصفهم شيخ الجامع؟ أم أنه موصولون من حيث انقطع غيرهم، موصولون برباط خفي له اتصال السحر كما لصوته وصل السحر بالقلوب لبلوغ مراتب الرضى والوصول؟؟
وارتفع نداء الحق ليقطع كل الفِكَر ويوقظ أصحاب البصائر الحية يحمله صوت الكروان الذي امتزج بأشجان الوصل ومخاوف الزلل وشوق الحبيب المقلّ.